الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

البلاء كل البلاء موكل باللسان.

بسم الله الرحمن الرحيم

��البلاء موكل باللسان��

الكلام أسيرك ، فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره ، ولذا قيل " البلاء موكل بالمنطق "1 ، فكل عاقل يعرف أن الشرور مباديها كلمة ، ولذلك من الأمثال السائرة عند الحكماء :" معظم النار من مستصغر الشرر " 2 ، وليس المقصود تكميم أفواه الخلق ، ولا السكوت عن إظهار الحق لكن كما أثر عن أحد الفصحاء قوله :" اعقل لسانك إلا عن حق توضحه، أو باطل تدحضه، أو نعمة تذكرها " 3 .
والضابط لذلك أنك إذا تكلمت فبفهم وعلم ، وإذا سكت فبحكمة وحلم ، فإذا كان " الساكت عن الحق شيطان أخرس عاص لله مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه ، فالمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله ، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته فهم بين هذين النوعين " 4 .
فالقصد إذن أن تحذر - عبد الله - من التلفظ بما فيه هلاكك أو هلاك غيرك ، كما قال أكثم بن صيفي:" مقتل الرجل بين فكيه "5 ، والعرب تقول في أمثالها :" إياك وأن يضرب لسانك عنقك "6 ، فـ " اللسان معيار أطاشه الجهل وأرجحه العقل "7 .
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - :" ما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد ، كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد "8 .
فالبصير هو الذي يستشعر مسؤولية الكلمة فيما يجري به لسانه بنوعيه وخاصة قلمه الذي يتسع مداه ، ولذا قيل في حق آداب كل من اليدين :" احفظهما عن أن تضرب بهما مسلما ، أو تتناول بهما مالا حراما ، أو تؤدي بهما أحدا من الخلق ، أو تخون بهما في أمانة أو وديعة ، أو تكتب بهما ما لا يجوز النطق به، فإن القلم أحد اللسانين 9 ، فاحفظ القلم عما يجب حفظ اللسان عنه "10 .
فالقلم أمانة في عنق حامله لا ينبغي أن يستعمله إلا في الرسالة التي أرسل بها النبيون وورثتهم من العلماء ، فإساءة استعمال القلم كإساءة استعمال السلاح كلاهما يفضي إلى الدمار في العقول والنفوس ، ولذا قال فيه الشاعر :
إذا اهتز في طرسه معجبا **** أذل شعوبا وأعلى شعوبا
فما أحوج أكثر الألسن إلى الحجر، وكثيرا من الأقلام إلى الكسر ، لسوء استخدامها، وعدم ضبط استعمالها ، خاصة عند الفتن والمحن والإحن التي يحتاج فيها المرء إلى التأني والتثبت بدل الاسترواح إلى مجرد النظر ، أو ما يسنح في الفكر ، فإن التعجل يمنع التوصل ، وصدق من قال :" من تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة "11 .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنه قال : قال عليه الصلاة والسلام :
" إنها ستكون فتنة تستنظف العرب ، قتلاها في النار ، اللسان فيها أشد من وقع السيف "12 .
قال العلامة عبد المحسن العباد - حفظه الله - عند شرح المقطع الأخير من الحديث - مع ميله إلى ضعفه - :" يعني : في ضرره وتأثيره ، وذلك بالتحريض والتهييج والتحريك وإفساد النفوس والقلوب ، كل ذلك يحصل عن طريق اللسان ، وعن طريق تهييج الغوغاء من الناس الذين يتبعون كل ناعق وكل شيء يسمعونه يستسلمون له وينقادون إليه " 13 .
فالله الله في ضبط الكلام عند تغير الأحوال واشتداد المحن خاصة فإن " كلام الرجل عنوان عقله "14، و " عقل الرجل مدفون تحت لسانه "15 .
فالمتكلم في الفتن والإحن بلسان الشرع عليه أن يفقه الأحكام الكلية ، وأصول الكلام فيها ، وأن يتصور الوقائع والحوادث تصورا شرعيا وعلميا 16 ، وأن يكون متمكنا من إنزال المرويات والنصوص على الواقعة بمسلك مليح ، ومنهج صحيح، وإلا فالسكوت أولى ، والورع أسلم .
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - :" لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت ؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات ، وظلم في الكليات ، فيتولد فساد عظيم "17 .
والغرض – عموما – لفت النظر إلى أهمية إحكام الكلام وضبط اللسان قدر الإمكان حتى لا يعرض الملام ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :" إياك وكل أمر يعتذر منه "18،
وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : " إنما الفتنة باللسان وليست باليد "19 .

أرى خلل الرماد وميض نار
**** ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تــــــذكى
***** وإن الحرب أولها كــــــــلام
وإن لم يطفها عقلاء قـــــوم
***** يكون وقودها جثث وهــــــام

ومما له علاقة بهذا الصدد ضرورة الاعتناء بـ ( لغة العلم ) ، فإن " الناس كلهم صبيان العقول إلا من بلغ مبلغ الرجال العقلاء الألباء ، وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة "20 ، كما ينبغي الحرص – أصالة - على ( الألفاظ الشرعية ) إذا تكلمنا في الأمور العلمية – عند الفتن خاصة – فإن في ذلك العصمة ، وخلافها غير مأمون العاقبة كما لا يخفى فإن " الألفاظ الشرعية لها حرمة "21 ، و " التعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية هو سبيل أهل السنة والجماعة " 22 .
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - :" وأكثر آفات الناس من الألفاظ ولا سيما في هذه المواضع 23 التي يعز فيها تصور الحق على ما هو عليه، والتعبير المطابق ، فيتولد من ضعف التصور وقصور التعبير نوع تخبيط ، ويتزايد على ألسنة السامعين له وقلوبهم بحسب قصورهم وبعدهم من العلم "24 .
فالله المستعان على ضبط اللسان صدعا بالحق ، أوصمتا بالصدق ، خاصة زمن المحن والافتتان فـ " إن هذه الفتن والأهواء قد فضحت خلقاً كثيراً ، وكشفت أستارهم عن أصول قبيحة ، فإن أصون الناس لنفسه أحفظهم للسانه ، وأشغلهم بدينه ، وأتركهم لما لا يعنيه "25 .
وعليه فمن أراد السلامة من الزلل في اللسان فليستحضر عند كلامه جملة من الشروط كشف عنها العلامة الماوردي - رحمه الله - حيث قال : "واعلم أن للكلام شروطا لا يسلم المتكلم من الزلل إلا بها ولا يعرى من النقص إلا بعد أن يستوفيها ، وهي أربعة شروط :
فالشرط الأول : أن يكون الكلام لداع يدعو إليه إما في اجتلاب نفع أو دفع ضرر .
والشرط الثاني : أن يأتي به في موضعه ، ويتوخى به إصابة فرصته .
والشرط الثالث: أن يقتصر فيه على قدر الحاجة .
والشرط الرابع : أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به 26 .
فلنجتنب " آفات الألفاظ "، و" أمراض الكلام " 27 ، و" علل اللسان "، ولنتنكب المجارات مع " ألسنة العوام "، ولنحرص على "الإيضاح التام"، بـ " الحجة والبرهان "، قصد " تنوير الأفهام "، و " تنبيه الأنام "، دون " هدم الأركان "، و لا تغييب " القواعد الحسان "، فإن " البلاء موكل باللسان "، و" الله المستعان " و " عليه التكلان " .
..................................................
1. مأثور عن أبي بكر - رضي الله عنه - كما في المناقب المزيدية، وقد رفع إلى النبي - عليه الصلاة والسلام -، وهو ضعيف أنظر ضعيف الجامع رقم: 2379.
. 2. غذاء الألباب 1/66
. 3. أدب الدنيا والدين ص: 340
. 4. الداء والدواء لابن القيم - رحمه الله – ص: 113
5. المجالسة وجواهر العلم ص: 190.
6. الأمثال لابن سلام ص: 2.
7. مأثور عن علي - رضي الله عنه - كما في أدب الدنيا والدين ص: 340.
8. الصارم المسلول 2/735.
9. قال الحكماء:" القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسر القلوب " نهاية الأرب 7/19.
10. بداية الهداية ص: 16.
. 11. إعلام الموقعين 1/36
12. رواه الإمام أبو داود - رحمه الله -، والإمام أحمد - رحمه الله -، وضعفه الإمام الألباني - رحمه الله - انظر ضعيف الجامع رقم:2080، وصححه العلامة أحمد شاكر - رحمه الله -
. 13. شرح سنن أبي داود للشيخ العباد - حفظه الله - 24/18
. 14. الرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي - رحمه الله – ص: 50
. 15. عيون الأخبار 1/200
16. قال العلامة الحجوي - رحمه الله - :" وأكثر أغلاط الفتاوى من التصور " الفكر السامي 4/571.
. 17. نهاج السنة 5/83
. 18. صحيح الجامع رقم:2671
. 19. السنن الواردة في الفتن للداني - رحمه الله – ص: 171
. 20. إجتماع الجيوش لابن القيم - رحمه الله - ص: 29
. 21. الفتاوي لابن تيمية - رحمه الله - 12/114
. 22. شرح الطحاوية لابن أبي العز - رحمه الله - 1/70-71
23. يقصد - رحمه الله - بعض المواضع السلوكية الدقيقة فكيف بغيرها عند الفتن المضلة ..
. 24. المدراج 3/78
. 25. الإبانة الكبرى لابن بطة - رحمه الله - 2/596
. 26 . أدب الدنيا والدين ص: 275
. 27. أنظر معجم المناهي اللفظية ص: 49

✒️ كتبه :

أبو أويس رشيد بن أحمد الإدريسي الحسني عامله الله بلطفه الخفي وكرمه الوفي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جزاك الله خيرا على تعليقك.