الثلاثاء، 11 أبريل 2017

نماذج من رفق النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمخالفين.



الملتقى الفقهي- د.محمد إبراهيم الحمد


السيرة النبوية حافلة بنماذج كثيرة من رفق النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمخالفين من سائر الطبقات، وإليك هذين المثالين في هذا الشأن:

المثال الأول: جاء في الصحيحين عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة يقول: "بعث رسول الله خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ماذا عندك يا ثمامة؟».

فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل تُعط منه ما شئت.

فتركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟».

قال: ما قلت، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.

فتركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان من الغد، ثم قال: «ماذا عندك يا ثمامة؟».

فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال، فسل تعط منه ما شئت.

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أطلقوا ثمامة» فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا محمدا والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟

فبشره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" متفق عليه.

فانظر إلى هذا الحلم، والصبر، وطول النفس؛ حيث أمهله النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام وهو يقول له: «ماذا عندك يا ثمامة».

ولما أحس منه العِزة، وأدرك - بذوقه المرهف - أنه سيد لا يقبل الضيم صفح عنه، وأطلق سراحه بعد حوار دم ثلاثة أيام.

فما كان من ذلك السيد إلا أن دخل في الإسلام عن طواعية، وصار في قبيل أهله بفضل ذلك الحوار الراقي، وذلك الرفق، والحلم، والصبر، وطول النفس.

يقول النووي -رحمه الله-: "قوله: وما عندك يا ثمامة؟" وكرر ذلك ثلاثة أيام - هذا من تأليف القلوب، وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير".

المثال الثاني: جاء في صحيح مسلم عن ثوبان مولي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كنت قائمًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء حبر من اليهود، فقال: السلام عليكم يا محمد؛ فدفعته دفعةً كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله، فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي».

فقال اليهودي: جئت أسألك، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أينفعك شيء إن حدثتك؟».

قال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعود معه، فقال: «سل» فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «هم في الظلمة دون الجسر» قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: «فقراء المهاجرين».

قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟

قال: «زيادة كبد النون».

قال: فما غذاؤهم على إثرها؟

قال: «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها».

قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «من عين فيها تسمى سلسبيلًا»، قال: صدقت.

قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي، أو رجل، أو رجلان، قال: «أينفعك إن حدثتك؟» قال: أسمع بأذني.

قال: جئت أسألك عن الولد، قال: «ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا، فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله».

قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف، فذهب.

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به» رواه مسلم.

فالنبي - عليه الصلاة والسلام - كان يُلزم أهل الكتاب بما في كتبهم من العلم، وينعى عليهم مخالفتهم لما جاءت به رسلهم، وكانوا؛ لعلمهم بالكتاب يوجهون أسئلة تشتمل على شيء من الدقة والمعرفة وإن كانوا ضالين.

والحبر اليهودي في هذا الحديث حاور النبي -صلى الله عليه وسلم- ودار في خلده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لن يستطيع الإجابة عن أسئلته، غير أن ظنه لم يكن في محله؛ حيث أجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تلك الأسئلة.

كما أن في ذلك الحوار أدبًا نبويًا عاليًا، ألا وهو التواضع الجم، والرفق بالمخالف؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- تواضع لهذا اليهودي، وتنزل في محاورته؛ حيث وافقه، ورضي منه بأن يناديه باسمه المجرد دون أن يعترف له بالرسالة؛ طمعًا في هدايته.

كما أن فيه أدبًا آخر من آداب الحوار ألا وهو ترك التحاور فيما لا ينفع، حيث سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحبر عن مدى نفع جوابه له، فقال: «أينفعك إن حدثتك؟».

ولهذا آتي الحوار ثمرته، وانقطع اليهودي، وأقر بالنبوة للنبي -صلى الله عليه وسلم-.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جزاك الله خيرا على تعليقك.