الأحد، 6 ديسمبر 2015

السلفيون هم العقلانيون.

قال صاحب العالِم السلفي له وهو يحاوره : إنكم - معشرَ السلفيين - متهمون بأنكم لستم بعقلانيين !
قال العالم السلفي : إذا كان المقصود بالعقلانية قبول مقتضيات العقل ، بأن تقبل النتائج التي تؤدي إليها الحجة العقلية الصحيحة ، وبأن لا يقبل التناقض وألا تُقبَل دعوى إلا بدليل ، وإذا كان المقصود به إعمال العقل والتفكر ؛ فنحن أجدر من غيرنا بوصف العقلانية .
قال صاحبه : كيف تكونون أكثر عقلانية من غيركم وفيهم من يقدم العقل على النص ؟ أليس مثل هذا أجدرَ بوصف العقلانية منكم ؟
قال العالم : بل هذا من قلة عقلهم !
قال صاحبه : كيف ؟
قال العالم : أليسوا مسلمين دلّتهم عقولُهم على أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الكتاب الذي جاء به هو كلام الله ؟
قال صاحبه : بلى !
قال العالم : فقد علموا - إذن - أن ما قاله الله في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذي لا ريب فيه ؟
قال صاحبه : أَجَلْ !
قال العالم : فما معنى أن تجعل العقلَ فوق كلام تعلم أنه الحق ؟
قال صاحبه : فماذا تقولون أنتم معاشر السلفيين ؟
قال العالم : نقول ما قال كثير من أئمتنا : إن ما دل عليه العقل الصريح لا بد أن يكون موافقاً لما جاء به النقل الصحيح ، فإذا حدث خلاف بينهما في أمر معين ؛ فلا بد أن يكون راجعاً إما إلى : خطأ في نقل النص ، أو في فهمه، أو في أن ما نُسِب إلى العقل ليس في الحقيقة بعقل صريح .
قال له صاحبه : إن هؤلاء المسمين بالعقلانيين يقولون : إنكم لا يمكن أن تكونوا عقلانيين ، وأنتم تبنون دينكم على التبعية لأناس لا مزية لهم إلا أنهم سلف عاشوا في الماضي ؟
قال العالم السلفي : نحن أولاً لا نأخذ ديننا من الرجال سواء كانوا في الماضي أو في الحاضر .
إن مصدر الدين عندنا هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا نقدم عليهما غيرهما ، كما أمرنا الله - تعالى - بقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: ١].
قال صاحبه : فما صلتكم بأولئك السلف إذن ؟
قال العالم السلفي : دعنا أولاً نحدد ماذا نعني بالسلف .
السلف عندنا هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم التابعون لهم ، ثم تابعو أولئك التابعين . وصِلَتُنا بهم هي الاقتداء بهم في فهم الدين وتطبيقه لأسباب إذا تدبّرها الإنسان وجدها في غاية العقلانية .
قال صاحبه : ما هذه الأسباب ؟
قال العالم : منها أولاً : أن الله - تعالى - قد أثنى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثناء يدل على فقههم للدين وإخلاصهم في العمل به ، من ذلك قوله - تعالى - : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْـمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [الفتح : ٨١ - ٩١]
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } [الحجرات : ٧].
وثانياً : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : «خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» .
والخيرية تتضمن الفقه في الدين وحسن العمل به ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : « من يُرِدِ اللهُ به خيراً يفقّهْهُ في الدين ».
وثالثاً : أن هذه الأجيال الثلاثة هي الأجيال التي نزل القرآن بلغتها وتكلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلسانها ؛ فهي أجدر بأن تفقه كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غيرها ؛ ولأن الصحابة منهم عاصروا نزول الوحي ، وشهدوا المناسبات التي تكلم فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتعلموا منه مباشرة كما تعلم بعضهم من بعض .
ورابعاً : أن الله - تعالى - أمرنا بأن نقتدي بكل من شهِد له بأنه على الحق ، كما قال - تعالى -: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٠٩].
قال صاحبه : لكن هذا معناه أنكم تجمدون على فهم قديم للدين ولا تسمحون بفهم جديد له ولا اجتهاد فيه ؟
قال العالم : أولاً : إنه لا يضير الفهم الصحيح أن يكون قديماً أو جديداً ؛ فنحن ما نزال نحاول فهم الشعر الجاهلي كما فهمه من سبقنا ، ولا يزال الغربيون يحاولون فهم فلسفات اليونان كما فُهمت في عصرها .
وثانياً : إن مما نتلقاه من السلف هو ما يمكن أن تسميه بالإدراك الأساس لمعاني النصوص ، وهو إدراك ضروري لكل تفكّر في النصوص واجتهاد فيها .
قال صاحبه : ما ذا تعني ؟
قال العالم : أعني أنك إذا لم تدرك المعنى الأساس للكلام ؛ فكيف تتأمله أو تفكر فيه ؟
قال صاحبه : إذن ؛ فأنتم تُعمِلون العقل حتى في النصوص ؟
قال العالم : أجل ! لأن ربنا يأمرنا بأن نتدبر كتابه ؛ وهل يكون تدبر إلا بإعمال العقل ؟
قال صاحبه : ما الفرق إذن بينكم وبين من يسمَّوْن بالعقلانيين ؟
قال العالم : نحن لا نسلِّم بأن هم هم العقلانيون ، بل نرى في منهجهم تناقضاً يتنافى مع العقلانية كما ذكرت لك من قبل .
قال صاحبه : فما مجال العقل في الشرع في رأيكم ؟
قال العالم : يعمل العقل في مجالات كثيرة بيّنها القرآن الكريم ، فمنها إدراك المعنى الأساس ، وهو إدراك عقلي يستوي فيه المؤمن والكافر الذي يتكلم اللغة التي نزل بها كتاب الله وتحدث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال - تعالى - : {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: ٥٧] .
إن الإنسان لا يؤمن بكلام أو ينكره ، ولا يرويه على حقيقته أو يحرفه ؛ إلا بعد أن يعقله .
قال صاحبه : شيء آخر مهم يتهمونكم به ويعدونه أمراً مخالفاً للعقل؛ يقولون. : إنه على الرغم من أنكم تقرؤون قول الله - تعالى - : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى : ١١] ، إلا أنكم في الواقع تشبِّهون الله - تعالى - بمخلوقاته حين تصفونه باستواء حقيقي ، ونزول حقيقي ، أو تقولون : إن له عيناً حقيقية ؟
قال العالم : فماذا يقولون هم ؟ أيقولون إن الله - تعالى - يصف نفسه بأوصاف غير حقيقية؟
قال صاحبه : يقولون : إن هذه الصفات لا يتصف بها على حقيقتها إلا المخلوقات، ولذلك فلا بد من تأويلها حين يوصف بها الله ، تعالى .
قال العالم : هذا أيضاً من قلة عقلهم وضيق عطنهم، وإلا فأين وجدت في العقل ما يدل على أن الصفات الحقيقية هي صفات المخلوقات ؟ بل إن الذي يدل عليه العقل وتدل عليه المشاهدة ؛ هو أن للصفات معاني تأخذ كيفيات مختلفة بحسب الموصوف بها ؛ فالعين - مثلاً - لها معنى واحد ، لكن عين الإنسان غير عين الحمامة ، وعين الحمامة غير عين الجمل ، وهكذا . فإذا صح هذا في المخلوقات التي بينها شبه ، فلماذا لا يصح بالنسبة لله الذي ليس كمثله شيء ؟
إننا نعرف معاني صفات مثل : العين ، والاستواء ، والنزول ، والرحمة ؛ لكننا لا نعرف الكيفيات التي يتخذها حين يتصف بها الخالق ، سبحانه . وهذا هو معنى قول الإمام مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول .
ثم إنك إذا جعلتها قاعدة لك مطّردة ؛ أن لا تصف الله - تعالى - بصفة يتصف بعض مخلوقاته بمعنى من معانيها ؛ انتهى بك الأمر إلى إنكار وجود الخالق ؛ لأنك لن تستطيع حينئذٍ أن تصفه - سبحانه - حتى بأنه موجود ما دمت تصف مخلوقاته بهذه الصفة ، ولن ينفعك أن تقول (إنك تلجأ إلى التأويل) لأنك حين تؤول لا بد لك من استعمال صفة الصفات ، كل ما هنالك أنك تستبدل بالصفة التي جاءت في كتاب الله صفة أخرى ؛ فهل تؤوِّل هذه ثم تؤوِّل التي أوّلت بها.. وهكذا إلى ما لا نهاية .

✍ كتبه :
الدكتور جعفر شيخ إدريس .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جزاك الله خيرا على تعليقك.