الجمعة، 9 أغسطس 2019

إشكال صيام يوم عرفة مع اختلاف المطالع، هل هو الموافق للزمن أو المكان؟








إشكال صوم يوم عرفة مع اختلاف المطالع؛ هل هو الموافق
 للزمن أو المكان؟
بقلم الفقيه المحقق سيدي عبد الله بنطاهر حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه.
سألني أحد الإخوة: فضلا أريد الجواب عن هذا الإشكال: هل صيام يوم عرفة مرتبط بالمكان أم بالزمان؟ أقصد صيام يوم عرفة هل هو يوم اجتماع الناس في عرفة، أو اليوم التاسع بحسب كل بلد؟ جزاكم الله خيرا
الجواب: 
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد؛ فالجواب عن هذا الإشكال يكون في توضيح المسائل التالية:
أولا: الاتحاد والاتفاق بين المسلمين عامة أمر مطلوب ليس في رؤية الهلال فحسب؛ بل في جميع الرُّؤَى؛ فقهية كانت، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسة، أو عسكرية، أو، أو...، لو تحقق هذا الاتحاد في مسرح الأمة لزالت كثير من إشكالاتها، وصيام يوم عرفة مشكل صغير بالنسبة للمشاكل الكبيرة التي يتطلب حلها في إطار توحيد الكلمة على أساس من كلمة التوحيد؛ روى أبو داود بإسناد حسن أن النبيﷺ قال: «...عليكم بالجماعة، فإنما يأكلُ الذِّئبُ من الغنم القاصية»(1).
ثانيا: هذا الإشكال مبني على القول بالأخذ باختلاف المطالع في رِؤية الهلال وهو مذهب الشافعية، أما المالكية فلا إشكال عندهم في المسألة؛ لأنهم يقولون بوجوب توحيد رؤية الهلال، وفي أي مكان ثبتت فيه الرؤية يجب على الجميع الأخذ به، ولهذا لا تجد في كتبهم الجواب عن هذا الإشكال وأمثاله المبني على الأخذ باختلاف المطالع، قال الشيخ خليل في مختصره: "يثبت رمضان بكمال شعبان، أو برؤية عدلين...، أو برؤية جماعة مستفيضة، وعَمَّ إن نُقِلَ بهما عنهما"؛ أي: وعم سائر البلدان القريبة أو البعيدة إن نُقِلَ خبرُ الرؤية بالعدلين أو بالمستفيضة، وعن العدلين أو عن المستفيضة، ولا يراعى في ذلك مسافة قصر، ولا اتفاق المطالع ولا عدمها؛ فيجب الصوم على كل منقول إليه(2)؛ لعموم قول النبيﷺ: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين»(3)، وقولهﷺ: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا»(4).
ثالثا: ما جرى به العمل في العالم الإسلامي اليوم هو الأخذ باختلاف المطالع وهو مذهب الشافعي، وهو أيضا صحيح؛ دليله ما روى الإمام مسلم عن كريب مولى ابن عباس: «أن أمَّ الفضل بعثَتْهُ إِلى معاويةَ بالشام، قال: فَقَدِمْتُ الشامَ، فقضيتُ حاجَتها، واسْتُهِلَّ عليَّ رمضانُ وأنا بالشام، فرأيتُ الهلاَل ليلةَ الجمعةِ، ثم قَدِمْتُ المدينةَ في آخرِ الشهرِ، فسألني عبدُ الله بنُ عباس -رضى الله عنهما-، ثم ذكر الهلالَ فقال: متى رأيتُم الهلالَ؟ فقلت: رأيناه ليلةَ الجمعةِ، فقال: أنتَ رأيتَهُ؟ فقلتُ: نعم، ورآه الناسُ وصاموا وصام معاويةُ، فقال: لكنَّا رأَيناه ليلةَ السبتِ، فلا نزال نصومُ حتى نُكمِلَ ثلاثين أو نراه، فقلتُ: أولا تكتفي برؤية معاويةَ وصِيامِهِ؟ فقال: لا، هكذا أمرَنَا رسولُ الله»(5).
رابعا: القواعد العلمية والواقعية لعلم الفلك تدل على أن الغرب في بلاد الإسلام يمكن أن يسبق الشرق بيوم ولا ينعكس؛ أي: لا يمكن أن يسبق الشرق الغرب؛ لأن الهلال إذا ثبتت رؤيته في الشرق لا بد أن تثبت في الغرب بشكل أوضح؛ لأن غروب الشمس في المغرب يأتي بعد ساعات، فيكون القمر قد تنقل خلال هذه الساعات مسافة معينة تجعله أكثر وضوحا في المغرب، فإذا ظهر الهلال في الشرق لا بد من ظهوره أوضح في الغرب بعد ساعات، كما يمكن ألا يظهر في الشرق ويظهر بعد ساعات في الغرب فنكون نحن من نسبق بيوم، أما مسألة ظهوره في المشرق وغيابه في المغرب فهي مستحيلة وبالتالي تقدم دول المشرق على المغرب في بداية الشهور باطل. وقد حدث هذا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، حيث رأوا الهلال في الشام يوم الجمعة ولم يره من في المدينة إلا يوم السبت، كما في حديث كريب السابق، والشام في الغرب بالنسبة للمدينة المنورة.
أما الحالة الراهنة الموجودة حاليا في العالم الإسلامي حيث يسبق الشرق الغرب في رؤية الهلال بيوم، فهي مخالفة للقواعد العلمية والواقعية، إنما هي نتيجة إهمال أو تلاعب بالدين، ومنه رؤية الهلال، وقد شهد على هذا التلاعب علماء الفلك حتى في بلاد الحرمين، وقد ثبت في كثير من المرات خطؤهم في تقويم دخول الشهر باعترافهم هم، وهذا أمر شائع وفاش ومشهور ومعروف. والله المستعان.
خامسا: الخروج من هذا الإشكال يكون بربط صيام يوم عرفة بالزمان وهو اليوم التاسع بحسب كل بلد، لا بالمكان وهو يوم اجتماع الناس في عرفة لأمرين:
الأمر الأول: لأن كل أنواع الصيام المشروعة في الإسلام فرضا كان أو نفلا ثبت بالاستقراء أنه مرتبط بالزمان لا بالمكان؛ من شهر رمضان، وست من شوال، ويوم عاشوراء، وشهر شعبان، وأيام البيض، وكذلك عرفة لا يمكن أن يكون مستثنى بدون دليل؛ وقد ورد في الحديث مل يدل على أن النبيﷺ كان يربط الصيام بالتاسع؛ روى النسائي بسند صحيح عن بعض أزواج النبيﷺ: «أن رسول اللهﷺ كان يصوم تسعا من ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر، وخَمِيسَيْن»(6)، وهذا هو مذهب المالكية؛ قال الخرشي في شرحه لمختصر خليل عند قوله (...وعرفة وعاشوراء...): "ولم يرد بعرفة موضع الوقوف؛ بل أراد به زمنه وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وأراد بعاشوراء اليوم العاشر من المحرم"(7)، وقال الإمام ابن عاشر:
صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَجَباَ /// فِي رَجَبَ شَعْبانَ صَوْمٌ نُدِباَ
كَتِسْعِ حِجِّةٍ وَأَحْرَى الآخِرُ /// كَذَا المُحَرِّمُ وَأَحْرَى الْعاشِرُ
الأمر الثاني: لو سبق الغرب الشرق في الرؤية حسب ما هو مطلوب علميا وواقعيا فحينئذ سيكون العيد عندنا هو يوم الوقوف بعرفة: فهل سنصوم العيد حتى نوافق وقفة الحجاج، وصيام العيد حرام، أم نضيع فضل صيام يوم عرفة، وقد قال النبيﷺ: «صيامُ يوم عرفة أحتَسِبُ على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده»(8)؟ وكان قد حدث هذا في الصين ربما سنة 1428هـ 2007م حيث سبقوا بيوم فكان العيد عندهم يوافق يوم الوقوف، فأرسلوا إلى السعودية يستفتون ويطلبون الإجابة؟ فإذا قلنا: المقصود هو اليوم التاسع بحسب كل بلد، المبني على اعتبار الزمان لا المكان فلا إشكال في المسألة.
سادسا: يجوز صوم اليوم الثامن الموافق للوقوف بمكان عرفة وصوم اليوم التاسع الموافق للزمان خروجا من هذا الخلاف.
الخلاصة: أن اتحاد الدول الإسلامية في رؤية الهلال أمر مطلوب، وهو مذهب المالكية؛ وأن السائد اليوم والجاري به العمل هو أن الرؤية حسب اختلاف المطالع وهو مذهب الشافعية، وأن الغرب في الكرة الأرضية يمكن أن يسبق في الرؤية الشرق ولا ينعكس، وأن الخروج من الإشكال في صوم يوم عرفة في حالة الاختلاف يتحقق بارتباطه بالزمان وهو اليوم التاسع، لا بالمكان وهو يوم الوقوف، كما أن الخروج من هذا الخلاف يكون بصوم الثامن والتاسع معا. والله الموفق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهامــــــش:
(1) سنن أبى داود: كتاب الصلاة: باب فِي التَّشْدِيدِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ: (1/ 214): رقم 547.
(2) الشرح الكبير للدردير: (1/ 510).
(3) رواه البخاري في كتاب الصوم: باب قول النبيﷺ: «إذا رأيتم الهلال فصوموا» برقم 1909، ومسلم في كتاب الصيام: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤيته: برقم 1081. 
(4) رواه النسائي في كتاب الصيام: باب قبول شهادة الرجل الواحد على شهر رمضان برقم 2116.
(5) صحيح مسلم: كتاب الصيام: باب بَيَانِ أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ...: (3 / 126).
(6) سنن النسائي: كتاب الصيام: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر...: (4/ 220). 
(7) شرح مختصر خليل للخرشي (2/ 234)
(8) صحيح مسلم كتاب الصيام: باب اسْتِحْبَابِ صِياَمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ: (3/ 167).
----------
كتبه الفقيه المحقق سيدي عبدالله بنطاهر حفظه الله
11 ذو الحجة 1434 هـ 13 /9 / 2016 م
مدرسة الإمام البخاري للتعليم العتيق أكادير المغرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جزاك الله خيرا على تعليقك.