إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران: 102].
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) [سورة النساء: 1].
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) [سورة الأحزاب: 70].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قلت: سبب هذا المقال هو ما ذكره بعض الدكاترة الأفاضل في ماستر: "الاجتهاد والتجديد والتواصل الحضاري" عند ذكر أسباب الاختلاف وجوازه في الأمة الإسلامية، وأنه ظاهرة صحية، ولكنه لما أراد الاستدلال ببعض المسائل المختلف فيها؛ لم يُحسن الاستدلال، إذ أتى ببدع مشهورة وحاول جعلها من الأمور المختلف فيها اختلافا معتبرا، وليته اقتصر على ذلك، بل حاول ردع أهل الحديث باستدلاله بكلام إمام من أئمتهم وهو شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- [وقوله حجة عندهم إذا وافق الدليل وإلا فلا ولا كرامة] بأنه يقول بهذه البدع ويُجيزها؛ وهذا مما استنكرته في الحصة ابتداءا لأن من طالع كتب شيخ الإسلام علم يقينا أنه لا يُجيز هكذا أعمال، فلما رجعت وبحثت عن مستند الدكتور من قول شيخ الإسلام، وجدته قد أخطأ فهم كلامه كما هو حال أكثر من في زماننا حين استدلالهم بكلام شيخ الإسلام، ولذا استخرت الله في كتابة هذه السطور بيانا للحق وقمعا للباطل وتصويبا لما رآه دكتورنا الكريم.
فأقول:
إن السنة هي ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم أو سنه أحد الخلفاء الراشدين لقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ...) الحديث.
والمهديين هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- [وليس يدخل فيهم عمر بن عبد العزيز –رحمه الله تعالى-]، أما ما سوى ذلك فهو من المحدثات التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر أنها شر وضلاله -ومن ذلك المولد- فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به ولم يفعله، ولم يأمر به أحد من الخلفاء الراشدين، ولم يفعله أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- ولا التابعين ولا تابعيهم بإحسان، وعلى هذا فهو بدعة وضلالة يجب ردها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود على صاحبه كائنا من كان.
وقد تواتر عن السلف التحذر من البدع؛ فروى ابن حبيب عن ابن الماجشون قال: سمعت مالكا -رحمه الله تعالى- يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة: 3] فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا".
فالله تعالى لم يأمر عباده بالاحتفال بـالمولد ولم يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، ولم يفعله أحد الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، بل لم يكن معروفا عند المسلمين إلى أن مضى عليهم نحو ستمائة سنة فحينئذ ابتدعه سلطان إربل وصار له ذكر عند الناس.
وعلى هذا فمن زعم أن الاحتفال بالمولد من الدين فقد قال على الله وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، والله تعالى يقول: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون) [الأعراف: 33] وقال صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).
ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلاما يُقرر فيه بدعة الاحتفال بالمولد النبوي وأنه ضلالة بل قد تصل للزندقة إذا صحبها العزف بالمعازف والشطح وغير ذلك من المنكرات وظن فاعلها أنها قربة إلى الله تبارك وتعالى؛ وسيأتي كلامه في ذلك.
ومن كلامه رحمه الله تعالى في ذم كل ما هو محدث -قوله-:
"وأما صلاة الرغائب فلا أصل لها بل هي محدثة فلا تستحب لا جماعة ولا فرادى –ثم قال- الاجتماع على الطاعات والعبادات فإنه نوعان:
أحدهما: سنة راتبة
إما واجب وإما مستحب كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح ...
والثاني: ما ليس بسنة راتبة
مثل الاجتماع لصلاة تطوع مثل قيام الليل أو على قراءة قرآن أو ذكر الله أو دعاء فهذا لا بأس به إذا لم يتخذ عادة راتبة ... لم يكره لكن اتخاذه عادة دائرة بدوران الأوقات مكروه لما فيه من تغيير الشريعة وتشبيه غير المشروع بالمشروع ... وهذا تغيير لدين الله وتبديل له .
وهكذا القول في ليلة المولد وغيرها والبدع المكروهة ما لم تكن مستحبة في الشريعة وهي أن يشرع ما لم يأذن به الله فمن جعل شيئا دينا وقربة بلا شرع من الله فهو مبتدع ضال وهو الذي عناه النبي بقوله كل بدعة ضلالة فالبدعة ضد الشرعة والشرعة ما أمر الله به ورسوله أمر إيجاب أو أمر استحباب وإن لم يفعل على عهده ... ". انتهى كلامه بتصرّف.
وسئل عمن يعمل كل سنة ختمة في ليلة مولد النبي هل ذلك مستحب أم لا؟
فأجاب:
" ... وأما إتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال أنها ليلة المولد أو بعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة أو أول جمعة من رجب أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها والله سبحانه وتعالى أعلم ".
وأما قول شيخ الإسلام الذي استدل به الدكتور فهو:
" فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد " ( ).
فجوابه ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله تعالى- حيث قال:
" أما قول شيخ الإسلام:
"فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
فليس فيه إلا الإثابة على حسن القصد، وهي لا تستلزم مشروعية العمل الناشئة عنه؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام أن هذا العمل- أي الاحتفال بالمولد- يستقبح من المؤمن المسدد، ولكن الشنقيطي [وهو أحد المستدلين بجواز المولد بكلام شيخ الإسلام] أخذ أول العبارة دون تأمل في آخرها، وفي أول بحث المولد في "اقتضاء الصراط المستقيم" فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الذين يتخذون المولد عيداً محبة للنبي صلى الله عليه وسلم (ص 294-295):
"والله تعالى قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ ... ".
فهذا تصريح من شيخ الإسلام بأن إثابة من يتخذ المولد عيداً محبة للنبي صلى الله عليه وسلم من ناحية قصده لا تقتضي مشروعية اتخاذ المولد عيداً ولا كونه خيراً، إذ لو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ لأنهم أشد محبة وتعظيماً لرسول الله منا.
ثم بعد ذلك صرح شيخ الإسلام بذم الذين يتخذون المولد عيداً، فقال في (ص 295، 296):
" أكثر هؤلاء تجدهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة، تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء الكبير والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها ".
وقال شيخ الإسلام في "الاقتضاء" (ص 317):
" من كانت له نية صالحة أثيب على نيته وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع إذا لم يتعمد مخالفة الشرع ".
وصرح في (ص290) بأن إثابة الواقع في المواسم المبتدعة متأولاً أو مجتهداً على حسن قصده لا تمنع النهي عن تلك البدع والأمر بالاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه، وذكر أن ما تشتمل عليه تلك البدع من المشروع لا يعتبر مبرراً لها.
كما صرح في كلامه على مراتب الأعمال بأن العمل الذي يرجع صلاحه لمجرد حسن القصد ليس طريقة السلف الصالح، وإنما ابتلى به كثير من المتأخرين، وأما السلف الصالح فاعتناؤهم بالعمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه بوجه من الوجوه، وهو العمل الذي تشهد له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -ثم قال-:
" وهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه، والأمر به على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب".
أضف إلى هذا أن نفس كلام شيخ الإسلام:
" فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له أجر عظيم لحسن قصده ... " إلخ.
إنما ذكره بصدد الكلام على عدم محاولة إنكار المنكر الذي يترتب على محاولة إنكاره الوقوع فيما هو أنكر منه، يعني أن حسن نية هذا الشخص- ولو كان عمله غير مشروع- خير من إعراضه عن الدين بالكلية.
وقال في بعض فتاواه:
" فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك، واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق ".
وأما قول شيخ الإسلام:
" إذا رأيت من يعمل هذا- أي المنكر- ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه اضر من فعل ذلك المكروه ".
فمن الغرائب الاستدلال به على مشروعية الاحتفال بالمولد ما دام شيخ الإسلام يسمي ذلك منكراً، وإنما اعتبر ما يترتب على محاولة إزالته من خشية الوقوع في أنكر منه عذراً عن تلك المحاولة من باب اعتبار مقادير المصالح والمفاسد، وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على هذا النوع في رسالته في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ومن ضمن بحثه في ذلك قوله:
" ومن هذا الباب ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور؛ لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به واستعذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه حمي له سعد بن عابدة- مع حسن إيمانه وصدقه- وتعصب لكل منهما قبيلته حتى كادت أن تكون فتنة ".
ومن هذا يُعلم أن لا ملازمة بين ترك النهي عن الشيء لمانع وبين إباحة ذلك الشيء كما يُتخيّل !
وهذه العبارة التي نقلتها عن شيخ الإسلام في عدم النهي عن المنكر إذا ترتب عليه الوقوع في أنكر منه لا تصلح جواباً لمن سأل عن حكم الإنكار على من اتخذ المولد عيداً إذا ترتب على الإنكار الوقوع في أنكر منه.
كما أن ما ذكر لا يعتبر مبرراً للابتداع، فإن الباطل إنما يزال بالحق لا بالباطل.
قال تعالى:
(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) [سورة الإسراء: 81].
وليس النهي عن الاحتفال بالمولد من ناحية قراءة السيرة بل من ناحية اعتقاد ما ليس مشروعاً مشروعاً، والتقرب إلى الله تعالى بما لم يقم دليل على التقرب به إليه، ... وسيرة النبي صلى الله عليه وسلّم أرفع من أن لا تقرأ في السنة إلا في أيام الموالد.
وأما دعوى فتح شيخ الإسلام ابن تيمية باب الابتداع فيما يتعلق بتعظيم النبي –صلى الله عليه وسلم-، فكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية تدل أوضح دلالة على بطلانها، فقد قرر فيها أن كيفية التعظيم لا بد من التقيد فيها بالشرع، وأنه ليس كل تعظيم مشروعاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن السجود تعظيم، ومع ذلك لا يجوز لغير الله، وكذلك جميع التعظيمات التي هي من خصائص الألوهية لا يجوز تعظيم الرسول بها، كما قرر في غير موضع من كتبه أن الأعمال المضادة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن قصد فاعلها التعظيم، فهي غير مشروعة.
لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران:31].
ويستدل كثيراً بما جاء في النصوص من النهي عن الإطراء، وكلامه في ذلك كثير لا يحتاج إلى الإطالة بذكره ما دامت المراجع بحمد لله موجودة، هذا على سبيل العموم.
أما ما يخص مسألة اتخاذ المولد النبوي عيداً بدعوى التعظيم فقد تقدم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: إنه لم يفعله السلف مع قيام المقتضي وعدم المانع منه، قال:
" ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان " اهـ.
قال جامعه -أبو عبد الله الإبراهيمي-:
انتهى المراد من هذا الجمع فما أصبت فيه فمن الله وحده، وما جانبت فيه الصواب فهو من نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه براء.
[سبحان الله وبحمده؛ سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
جزاك الله خيرا على تعليقك.