الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
سيدخل علينا بعد أيام قليلة شهر ربيع الأول، وفي مثل هذا الشهر من كل عام نرى كثيراً من الناس يحتفلون بيوم مولد محمد - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الثاني عشر منه، وهم يعدون العدة، ويجهزون الأجهزة؛ استعداداً للاحتفال لهذا اليوم، حيث يعتبر في نظر كثير من الناس احتفالاً سنوياً في شهر ربيع الأول، يقام لذكرى مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويشتمل على قراءة شيء من القرآن، وشيء من السيرة، وإنشاد قصائد في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تؤدى بشكل جماعي على هيئة الأناشيد.
ولا شك أن هذا العمل لا يجوز أن يُتَعَبَّد الله به؛ فإنه من البدع المحدثة التي لا أصل شرعي لها، وقد تواترت نصوص الكتاب والسنة، والآثار عن السلف على التحذير من البدع والمحدثات، وإحدى هذه البدع مما انتشر في أوساط المسلمين، وأصبح مستساغاً لدى كثير منهم؛ بدعة المولد النبوي، بل أصبحت هذه البدعة عندهم من الأمور التي يتقربون بها إلى الله - عز وجل -، ويظهروا محبة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذا الاحتفال، وليس هذا من محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء، وإنما كمال محبته وتعظيمه - صلى الله عليه وآله وسلم - في متابعته وطاعته، واتباع أمره، وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بُعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه احتفل بالمولد.
وإذا تتبعنا كتب التاريخ نجد أن ما يسمى بـ"الاحتفال المولد النبوي" بدعة محدثة كان أول من أحدثها هم الفاطميون، "وكان للفاطميين في طول السنة: أعياد ومواسم وهي: موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومولد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ومولد الحسن، ومولد الحسين - عليهما السلام -، ومولد فاطمة الزهراء - عليها السلام -، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات"1.
وكان ظهور هذه البدعة في عهد المعز لدين الله الفاطمي العبيدي الباطني من بني عبيد القداح، ومن المعلوم أن الدولة الفاطمية لم تظهر إلا في عام 322هـ، قال ابن بطة العنكبري: "وقد نتج عن ذلك قيام الدولة الفاطمية, فقد أعلنها المهدي عبيد الله والد الخلفاء الفاطميين العبيديين، وزعم أنه من ولد جعفر الصادق، واستولى على بلاد المغرب العربي، وتلقب بالخلافة، وكوَّن هناك دولة لا علاقة لها بالدولة العباسية، ولا تربطها بها أية صلات، وقد حدث ذلك في سنة 322هـ"2.
والمتتبع لكتب التاريخ يجد أنه لا يعرف المؤرخون أن أحداً قبل الفاطميين احتفل بذكرى المولد النبوي فقد كانوا يحتفلون بالذكرى في مصر احتفالاً عظيماً، لكن مع هذا لم يثبت تاريخ صحيح في تحديد اليوم الذي ولد فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم -، فقد جاءت كتب السير والتاريخ تحدثنا أن النبي - عليه الصلاة والسلام - ولد يوم الثاني عشر، وأخرى تذكر يوم الرابع عشر، وثالثة تؤكد على أنه كان في يوم السادس عشر، والحاصل أن تاريخ الولادة غير منضبط، إلا أن الثابت قطعاً ويقيناً أنه - عليه الصلاة والسلام - توفي يوم الثاني عشر من ربيع الأول، فبماذا يحتفلون؟ بالثابت قطعاً؟ أم بالمشكوك في صحته؟، وقد ذكر الشيخ صالح بن عواد المغامسي هذه المسألة فقال:
"الاختلاف وقع فيما ذكر في قضية متى وُلد النبي - صلى الله عليه وسلم -، يجب أن تعلم أن المُتفق عليه أنه ولد في الاثنين، وفي شهر ربيعٍ الأول، ودائماً الإنسان في طلب العلم يأخذ ما اتُفق عليه في الأول، وما اختلف عليه يبدأ بعد ذلك بالأقوى، لكن لابد في المسيرة العلمية من شيءٍ قوي تركن إليه، ثم تُخرج الأضعف فالأضعف، فالثابت أنه -صلى الله عليه وسلم - وُلد في يوم الاثنين فهذا قطعيٌ أنه وُلد يوم الاثنين، وأصلاً لا أعلم أن هناك خلافاً في أنه وُلد في غير يوم الاثنين، الأمر الثاني المُتفق عليه أنه وُلد في شهر ربيعٍ الأول، والخلاف في أي يومٍ من شهر ربيعٍ الأول وُلد، فالذي عليه عامّة الناس في عصرنا أنه يوم الاثنين الثاني عشر ربيع الأول، والأظهر - والله أعلم - التي دلت عليه الدراسات المعاصرة أنه وُلد يوم الاثنين التاسع من شهر ربيعٍ الأول، لأن الفلكيين كالعلامة محمود باشا وغيره كالمنصور فوزي وغيره ذكروا أنه لا يمكن أن يكون يوم الاثنين في العام الذي وُلد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلكياً أن يكون يوم اثني عشر، وإنما هو يوم الاثنين التاسع من شهر ربيعٍ الأول الموافق في السنة الميلادية الثاني والعشرين من شهر إبريل لعام خمسمائة وواحد وسبعين من ميلاد المسيح - عليه الصلاة والسلام -"3.
ويبقى أن نشير إلى مسألة مهمة يدعيها من يؤيد فكرة المولد النبوي، وحاصلها: أن بدعة المولد بدعة حسنة؛ لأن فيها إحياء لذكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتدارس سيرته...إلخ ما يقال، فنقول لهؤلاء: لا يوجد في الدين بدعة سيئة، وبدعة حسنة، لأن البدعة شرعاً ما ليس له أصل في الشرع يرجع إليه، فالبدعة بدعة، وأما قول عمر - رضي الله عنه -: نَعِمَت البدعة "يريد: البدعة اللغوية لا الشرعية، فما كان له أصل في الشرع يرجع إليه إذا قيل: إنه بدعة، فهو بدعة لغةً لا شرعاً"4.
وأن يقاس المولد على التراويح فهذا من الخطأ البين؛ لأن التراويح قد صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ليالي، وتخلف عنهم في الأخير خشية أن تفرض عليهم، واستمر هو يصليها في بيته، واستمر الصحابة - رضي الله عنهم - يصلونها أوزاعاً متفرقين في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد وفاته، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خلف إمام واحد كما كانوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا بدعة في الدين؛ لوقوعها من الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلها أصل مأثور عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فلا وجه لأن تكون من البدع، والله أعلم.
أما المولد فإنه من البدع التي لم تظهر إلا بعد ذهاب القرون المفضلة كما سبق، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه احتفل بمولده، وأيضاً الصحابة، والتابعين؛ لم يرد عن أحد منهم أن فعل ذلك، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))5، وفي رواية الإمام البخاري: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))6، ومن نسب هذه البدعة بالاحتفال بالمولد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - فقد أعظم الفرية، وعليه من الله ما يستحق من عقوبة الكذابين والمفترين على رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وعلى أصحابه الكرام - رضي الله عنهم -.
نسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا حب رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - على النهج الذي يريد، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
|
مرحبا بكم في مدونة طريق الحسنى. أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم. وأن يجعل هذه المدونة خادمة للإسلام يستفيد منها الجميع. قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿٢٦﴾} [سورة يونس 26]. قال ابن الجوزي-رحمه الله-: ""من أحب ألا ينقطع عمله بعد موته فلينشر العلم"" (التذكرة ص 55). https://alhousnna.blogspot.com/
الأربعاء، 8 يناير 2014
متى ظهر الاحتفال بالمولد؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
جزاك الله خيرا على تعليقك.